ماذا يعني أن يشغل شخصٌ "حجيرة" في قلبك؟ حقيقة الحب على أرض الواقع.

 

 



تساؤل شغلني على مدى شهرين، واليوم وجدتُ إجابة له: ما هو الحب على أرض الواقع، بعيدًا عن مبالغات الأدب وسُمِّية التوقعات؟

 

هل يولد الحب من النظرة الأولى كما في القصص؟ مُنذُ صغري، وقعتُ في حبِّ لونٍ صارخٍ ليس الوردي المفضل لدى الفتيات، ولكنَّ والدتي لم تنصع كثيرًا لتفضيلي هذا اللون على الوردي في ملبسي، وأشكرها على ذلك؛ لأنني الآن - بعدما أطلقتُ العنان لهذا الحب في اختيار ملابسي وأغراضي - أصبتُ بتخمةٍ مؤقتةٍ من رؤيته حولي.غير أني، وكقارئة، لا أفضل قصص الحب من النظرة الأولى.

 


ماذا عن حبي للكتابة؟ فحتى اليوم، ما زلت أتذكَّر بوضوحٍ المتعةَ والحماسَ للكتابة عندما كنتُ في المرحلة الابتدائية، أجلس في مقدمة الصف بينما تنعكس أشعة الشمس المتسللة من نافذة الفصل الخلفية على السبورة أمامي، لا أذكر ماذا كانت تقول المعلمة لكن ما ظل محفورًا في بالي كتابتها أثناء حديثها "الحصة: تعبير".

 

ظلت تلك الذكرى مختبئةً في زاويةٍ من ذاكرتي، حتى تخرَّجتُ من الجامعة في تخصُّصٍ علمي، فبرزت فجأةً بوضوح ضوء شمس ذلك اليوم. وانهمر قلمي، وهدأت الأصوات من حولي، وأصبحت لي رئةٌ ثالثة.

مُدفوعةً بهذا الحب، أنشأتُ هذه المدونة قبل ستِّ سنوات، ألبستُها ياءَ الملكية ورفضتُ مشاركة الكتابة فيها مع شخص آخر، ولم أخبر بها أحدًا من عائلتي، حتى كَبُر حُبِّي لها ونضج، وصارت مرفأً أبتعد عنه، ثم أعود فأجد أحضانها بانتظاري.

 

هل يمكن أن يكون الحبُّ في الواقع بين البشر هكذا؟

 

لا، كانت لدي السيطرة الكاملة على مجريات العلاقة، ولم يكن هناك أي طرف آخر يؤثر علي. لم أشعر بمثل هذا الإحساس تجاه شخص آخر، مما دفعني للبحث عن قصص الحب في الثقافة السعودية.

يَجْمَعُ قيس وليلى، وعنتر وعبلة، حبٌّ طاهر، غير أن عاطفة كِلَي الرجلين اشتدت فانهمرت قريحتاهما شعرًا متأجج المشاعر؛ لصعوبة بلوغ محبوبتيهما. فلطبيعة الإنسان أن يُعَظِّم ما لا يملك، ويُغالي في تقديره، ظنًّا منه أنه مفتاح سعادته.

 تبيَّن لي أن هذه حال معظم الشخصيات الرجولية التي عاشت قصص الحب في التاريخ العربي، حيث كانت تلك القصص غالبًا ما تنتهي بالفراق. أعتقد أن السبب وراء ذلك يعود إلى أن العربَ قديمًا كانوا يرون أن تصريحَ الرجل بحبِّه لامرأةٍ ليست حليلةً له، فيه استنقاصٌ مِن شأنها؛ لذلك كان يُطلَب منهم مهرٌ تعجيزيٌّ كَرَدِّ اعتبارٍ لها. وهنا برز سؤال آخر: ما هو الحبُّ الذي يظلُّ شامخًا رغم تغيُّر الظروف، دون أن ينتهيَ بالفراق؟

 


قد يكون السبب في لُجوئي إلى قراءة أجوبة الأجانب عن ذلك هو أن هذا السؤال يُعَدُّ من الأسئلة الوجودية في حياتهم، والتي يستطيلون في الإجابة عنها. فمن خلال قراءتي لمختلف أنواع الأدب الأجنبي، وجدت أن العديد من الروايات الرومانسية كُتِبَت لاسترضاء المرأة، حتى على حساب منطقية بناء شخصية البطل الذي يبدو وكأنّ وجوده مُخْتَزَلٌ في محبوبته وأهوائها، متجاوزًا رغباته الخاصة. وهذا تصويرٌ غير واقعي.

لكنني، قبلَ عدة أيام، قرأتُ مقالة "لا أحد منا سيكون سهل التعامل معه في علاقة" (None of us are easy to be with)، والتي سدَّتْ بعضَ الفراغات في تعريف الحب الواقعي الذي أصبو لمعرفته.

 

عندما نحبُّ شخصًا، لا نعرف كيف سنتصرف معه. ففي البداية، نُظهِر لا إراديًّا أجملَ جوانبنا، ثم مع مرور الزمن واختلاف المواقف، تظهر هواجسُ النقص وضعفُنا البشري؛ فلا أحد منا نشأ في بيئة مثالية، فـهذه هي الدنيا، وليستْ جنةَ الآخرة، وفي الدنيا تخدشُ دواخلنا العديدُ من الأمور. إما أن نكون شبهَ متعافين منها، أو في طريقنا للتصالح معها، أو أننا عالقون داخلها.

 

وتلك الخدوش قد تجعل البعض يفقد صوته، فينعزل عن شريك حياته، وقد تجعل آخرينَ يفقدون السيطرةَ على ارتفاع صوتهم وردودِ أفعالهم، وقد تجعل آخرينَ يتجاوزون ما يجبُ التوقفُ عنده، لعدم الرغبة في الخوض في الكلام عما استفزَّ خدوشَهم. كل تلك ردودُ فعلٍ ليس من السهل معرفة دوافعها، خصوصًا أن الطرف الآخر إنسانٌ، وليس كائنًا خارقًا يستطيع قراءة دواخلنا.

 


الحبُّ هو أن يشغلَ أحدَ حجيراتِ قلبِكِ شخصٌ واحد. نحن إزاءه بين اندفاعٍ في انكشاف دواخلنا وانسحابٍ خوفًا من هذا الانكشاف الذي لم نعتده في التعامل مع الآخرين. فمن يقرأ هذه المعمعة من حركاتنا؟ لا أحد.

لطالما ظننتُ أن الحبَّ الحقيقي هو ما نحمله تجاه شخصٍ يفهمنا، ولكن ألسنا نحن في بعض الأحيان لا نفهم أنفسنا؟

من منظوري المتواضع، الحبَّ الواقعي صَرْحٌ يُشادُ لَبِنَةً لَبِنَةً من وضوحِ النوايا وبياضِ الاحترام، ثم تأتي الحياةُ فتُحمِّرُ طينتَهُ باختباراتها. ليس انجذابًا إلى بستان وردٍ عودَ ثقابٍ لا يتعدى طولُهُ خمس سنتيمترات قادرٌا على إحراقه وتسويتِهِ بالأرض.


أحدث أقدم

نموذج الاتصال